يناديني أبي من غرفته للمرّة الألف. أصل مسرعةً ظنّاً مني أنه يريد مساعدة في شيءٍ ما. أحاول تفادي الجدال مجدداً؛ ربّما هذه هي المرة العاشرة التي يكلمني بها عن موضوع العودة إلى لبنان. تزامن الحديث مع اليوم التالي لموقعة «تقديم الساعة»، وبينما كنت أتحضّر للعودة إلى باريس:
- بيي، ما مبارح كانت ح تعلق الحرب الأهلية، شو بدك ياني ابقى اعمل هون؟
- مش راح يضل الوضع هيك…
ذُهلت لمدى تفاؤل هذا الرجل السبعيني بعد كل ما عاشه في هذا البلد. فلزمت الصمت. عن أي «هيك» تُراه يتحدث؟ وماذا يعني بنفيه استقرارنا في القعر؟ ماذا تعني الـ«مش راح يضل»؟
ذكّرني هذا الحديث بصورةٍ نُشرت في مجلة باريس ماتش الفرنسية عام 1976، رأيتها منذ بضع سنوات، يظهر فيها شاب مليشيَوي رافعاً سلاحه بيد، وعلامة النصر بالأخرى، يرافقه من جهة يمين الصورة مانشيت «لبنان أبي قد مات» (مترجم من الفرنسية). يبدو أن الوالد لم يتقبّل ذلك العنوان الذي كان صحيحاً في عام 1976، ويبقى صحيحاً اليوم. أو ربّما لم تسنح له الفرصة لرؤية تلك الصورة بعد.
نحاول مؤخراً مع «ميغافون» إعادة صور من الحرب الأهلية (1975 - 1990) إلى الواجهة، لأهداف عديدة، منها إثارة فضول وتحفيز الذاكرة البصرية لأجيال ما بعد الـ1990. بعيداً عن صور المعارك، و بالعودة إلى صورة «لبنان أبي قد مات»، مقارنةً مع غيرها من صور المقاتلين في أعوام الحرب الأولى، نلاحظ تكرار تفاصيل عديدة، يمكننا تصنيفها ضمن خانات لـ«أدبيات صورة الميليشيَوي».
1. النظر مباشرةً إلى عدسة المصوّر
Keystone/Hulton Archive/Getty Images, December 1975.
2. رفع السلاح نحو السماء
3. رفع شارة النصر
Jacques Langevin/Sygma/Sygma via Getty Images, 1984.
وفي حين اعتمد الميليشيَويّون بعض تلك الرموز البصرية لأسبابٍ «جمالية» بحتة، تبقى خاصية الصورة الصحفية بأنها تُبنى أو تُركّب لهدفٍ ما، أحياناً خدمةً للمصور والوكالة المطلوب تقديم المادة لها، وأحياناً خدمةً للميليشيَوي المصَوَّر نفسه.
لذلك يبدو واضحاً افتعال بعض تلك «البوزات» التي صُوِّرت بغالبيتها بطلب من المقاتلين، كما يوضح عدد من المصورين الصحافيين اللبنانيين (ضمن مقابلاتٍ أجريتها معهم بين عامَيْ 2017 و2018).
في هذا السياق وعلى سبيل المثال، يقول المصوّر جمال الصعيدي الذي وثّق الحرب منذ عام 1977: طلب منّا المقاتلون تصويرهم خلال تغطيتنا للحرب، ولم نستطع أن نقول لا؛ حتّى أنهم في بعض الأحيان اتّهمونا بعدم التقاط صورهم عند ملاحظتهم أنّنا لم نستعمل الفلاش (لأننا اعتدنا في الماضي استخدام الفلاش لإزالة الظلال والإضاءة الخلفية). «لا يوجد فلاش! كانوا يقولون. لم تلتقط الصورة، أنت تكذب!».
أما في أهداف الصورة، وتحديداً ما يتعلّق بالعلاقة بين المصوّر وما يريده الميليشيَوي، لنا عودة إلى أهداف الصورة الأوسع، في سياق الحرب والرسائل المتبادلة، أي خارج علاقة المصوِّر بالمُصَوَّر. فيذكر المصوّر صالح رفاعي مثلاً (الذي وثّق الحرب منذ بدايتها) أنّها تتمّ بالاتجاهَين، وبالشكل التالي:
- نيل المصوِّر رضا الميليشيَويّين
عندما تبدأ بالذهاب يوميًا إلى مناطق الاشتباك، تبدأ في تكوين نوع من العلاقة مع المسلّحين، وإلا فلن يسمحوا لك بالتقاط الصور. ثم في اليوم التالي تُحضر لهم صورهم. […] هذه هي الطريقة ليسمحوا لك بإتمام عملك.
وقد بيّن المخرج الراحل مارون بغدادي بوضوح تلك العلاقة بين المصوِّر والمقاتل، في فيلمه حروب صغيرة (1982)، حيث لعب المصوّر الصحفي نبيل إسماعيل دور مصوّر حرب. نرى كيف يطلب هؤلاء الشباب اليافعين من المصوّر أخذ لقطات بطولية لهم. وهنا يبدو واضحاً هدف الميليشيَوي من الصورة.
- تباهي الميليشيَوي بين أوساطه
فالصورة تقدّم دليلاً حسيّاً، مباشراً من الجبهة. صورةٌ تُظهر وتؤكّد صِفة القبضاي.
يمكن التفصيل أكثر بإتيكيت الميليشيَوي. في مسألة الموضة مثلاً، يمكننا الحديث عن «لوكات» محدّدة، تدلّ على هوية الفصيل الذي ينتمي إليه الميليشيَوي، والدور الذي كان يؤدّيه (أو معطى له) في تلك الفترة.
4. الكوفيّات / قناع الوجه
مثلاً، من البديهي تمييز ما عرف بالفدائيين/ المرابطون/ الفصائل اليسارية من كوفياتهم.
في المقلب الآخر، كثرت الصور التي تظهر المقاتلين بغطاءٍ للرأس، مثقوب عند الأعين، كتلك التي انتشرت لمقاتلي الكتائب في مجزرة الكرنتينا في العام 1976.
View this post on Instagram
Françoise Demulder, World Press Photo, 18/1/1976
تجدر الإشارة هنا إلى أنّه كان يمكن أن تتغيّر أزياء الميليشيا بحسب الحدث أو التموضع، بمعنى أن المقاتلين الشباب في الأحياء كان لهم الحرية في تقديم أنفسهم بين أهلهم، بالطريقة التي يرونها ملائمة لصورة القبضاي (شعر أشعث، شارب، وذقن، إلخ)، في حين أنه إذا ما كان لهؤلاء دور على خطوط التماس، وجب تفرقتهم عن الجهة المقابلة، وتوحيد الهندام فيما بينهم لتسهيل تميّزهم. وأخيراً، يترك لوك غطاء الرأس أو ارتداء التنكّر، للتصفيات والأحداث الدموية؛ مع العلم أنه، ومع تطور الحرب وتوحّشها، لم يعد هناك من داعٍ لتمويه/ إخفاء هوية القاتل.
يبقى للمصوّر الدور الأساس في اختيار «بطل» الصورة، ذلك يعني أن تلك اللوكات المختلفة، مرتبطة مباشرةً بالصور النمطية التي بحث عنها المصوِّر، لتسهيل قراءة الصورة بصرياً، والتعرف على فئة المقاتل بطريقة شبه فورية.
5. التموضع مع صورة الزعيم
عنصر إضافي من الاتيكيت هو التموضع مع صورة الزعيم، وكان ذلك بالأغلب بإيعاز من المصوِّر، بهدف ترميز/تشفير الصورة وتسهيل قراءتها.
Jacques Langevin, Sygma/Sygma via Getty Images
استكمالاً لقراءة الإتيكيت، اليوم
6. تفادي النظر مباشرةً إلى عدسة المصوِّر
بمقارنةٍ بين الأمس والحاضر، فإنّنا (حتّى الساعة على الأقل) لم نشهد عودةً صورية لتلك اللقطات المتفاخرة جهاراً بالقتال. فلننظر إلى إتيكيت الميلشيَوي اليوم. سيتبيّن أنّ الفارق الأوّل هو تفادي النظر مباشرةً إلى عدسة المصوِّر.
ربّما لأننا لم نعلن رسمياً بعد العودة– الجزء الثاني من الحرب الأهلية. أما علامات النصر التي يتحدث عنها الروائي والكاتب إلياس خوري في «الجبل الصغير»، فقد بقيت هناك، في روايته، كرمز لبداية حربٍ كان فيها الكثير من مشاعر الثورة بهدف الانتصار على شيءٍ ما. أمّا اليوم، فمن المرجّح أننا بتنا نتعامل مع حروبنا الصغيرة على شكل معارك فردية لا تبغى النصر، بل بهدف استعراض قدرة التخويف والتخويف المضاد.
7. كمال الأجسام أو الوشوم
المعايير الاستيتيكية لميليشيَوي الأمس واليوم اختلفت كلياً. فما أصبح معتمداً في يومنا هذا كدليل على القوة والخطر، لم يكن رائجاً بتلك الكثرة في السابق، مثل كمال الأجسام أو الوشوم.
8. ماركات اللباس
أما في الموضة، فبات من الواضح أثر العولمة في اختيار الملابس، إذ أن معظمها بات موسوماً بماركات الأحذية أو القمصان.
كما تجدر الاشارة إلى سعي بعض ميليشيات اليوم لتوحيد مظهرها كنوع من العلامة التجارية، بهدف التماشي مع متطلبات العصر الاستهلاكي، فتراها توحّد القمصان الموسومة بشعار الميليشيا.
في هذا المثل، تعتمد الميليشيا (على ما يبدو) على التعبئة وفقاً لمعايير جمالية محددة.
يقال إن لكل حربٍ صورتها، وإن كل صورة هي بمثابة شاهد على حقبة وحدث ما.
وفي حين أن صور الأمس كان لها اتيكيتها ومقوّماتها (وتبلور ذلك مع تطور الحرب)، إن لجهة أهداف المصور منها، أو لجهة لوك الميليشيَوي وبوزاته؛ فمن الواضح أننا ما زلنا في طور تعريف تلك المقومات في صورة ميليشيَوي اليوم، وبناء معالم صورة حروبنا الحالية. أم ترانا نحتاج لإعادة تعريف ميليشيَوي اليوم نفسه وشكل سيطرته، لا الصورة فقط.
ربّما كان أبي محقّاً: «مش راح يضل الوضع هيك». لقد تغيّر الوضع بالفعل، وعلينا أن نغيّر معه طريقة قراءتنا لصورته.