الثورة بعد الأزمة
أكثر من سنة على انطلاق ثورة تشرين، وتبدو الصورة غامضة والأفق مسدوداً، على الأقلّ مقارنة بوضوح أشهر مسيّل الدموع والإمكانيات المفتوحة بالساحات. ربّما أخطأنا، كما يحلو للبعض الاستنتاج، عندما تفاءلنا في هذه اللحظات القليلة. جاءت الأزمات لتؤكد هذا الاستنتاج وتؤدّبنا من خلال تذكيرنا بأن لبنان ليس جسر الرينغ. فعادت الحركة الاحتجاجية إلى حدودها المعتادة، وإن كانت قد توسّعت بعض الشيء.
الثورة بعد الأزمة تحوّلت إلى طور من هذا الانهيار الطويل.
مختبر الثورة
لكنّ هذا الحكم غير عادل، وإن كان التمسّك بالثورة بات عبثيًا اليوم.
إنّه غير عادل لأنّ الثورة أو الانتفاضة غير مسؤولة عن أزمات النظام وعن حلّها، حتى ولو قدّم بعض «ممثّليها» أنفسهم كبديل جاهز عن طبقة سياسية متخيّلة.
وإنّه حكم غير عادل لأنّه استنتاج يتجاهل طبيعة الانتفاضة، كتعبير عن الأزمة البنيوية التي تمرّ بها البلاد وكتكثيف لأسئلة التغيير السياسي. فالثورة لم تشكّل بديلًا عن النظام بقدر ما شكّلت مختبرًا لإعادة اكتشاف المجتمع ومعه تحديّات العمل السياسي.
أن تكون هناك أسئلة من دون أجوبة أو تحدّيات من دون حلول أو بوادر أفق غير ممكنة، فهذا يدلّ على حيوية حدث «الثورة». فإذا تمسّكنا بحقيقة أن الثورة شكّلت حدثًا غير متوقّع، غيّر في أرضية العمل السياسي، فمن المتوقع أن نرث من هذه اللحظة كمًّا من الأسئلة المفتوحة، التي لا جواب جاهزًا لها. بعكس مطلب العمل المباشر، ربّما كان المطلوب اليوم هو الوقت، وقت طويل للجلوس مع تلك الأسئلة، للتعرّف إليها، والبحث بها، والاختلاف من حولها. فالبحث المتسرّع عن أجوبة هو نوع آخر من التأديب…
أسئلة لا تحصى
يقترح هذا الملف مساحة مفتوحة وعلنية لطرح تلك الأسئلة أو تقديم اقتراحات، البعض منها قد يكون سجالياً ولكنّه ضروري. والبعض الآخر قد يكون خارج الحدث ما يجعله أكثر رهانية من غيره. وقد يكون بعض هذه الأسئلة تكرارًا، ما يفرض البحث في هذا التكرار.
يمكن ترداد عدد من هذه الأسئلة أو التحديّات، من طبيعة التنظيم المطلوب إلى العلاقة مع الأحزاب، مرورًا بعلاقة النقد النسوي بالمشاريع السياسية المطروحة، وصولًا إلى حدود التضامن مع قضايا الشعوب المجاورة. قد تكون بعض هذه الأسئلة مباشرة، كالمشاركة بالانتخابات أو رفع مطلب تشكيل حكومة انتقالية، وبعضها الآخر أكثر ابتعادًا عن الحدث، كاقتراح نموذج التعاونيات أو الدعوة للتركيز على الهيمنة الثقافية. بعض هذه الأسئلة سجالي، مرتبط بمواضيع كالحياد أو الموقف من حزب الله، وبعضها الآخر خلافي، كالنقد الموجّه للثورة كونها لا تزال تنضوي على ممارسات ذكورية وسلطوية وعنصرية. قد تكون بعض هذه الأسئلة مرتبطاً بمضمون التغيير وطبيعته، من حصره لشعارات التغيير بمحاربة الفساد إلى توسيعها لكي تطال طبيعة المجتمع الذي نطمح إليه، وغيرها من الأسئلة…
من المستحيل بدء الملف بتلخيص الأسئلة أو التنبّؤ بها. فهذا بحدّ ذاته ينفي الطابع المفتوح لمختبر الثورة.
شكل الاقتراح
لكنّ الأسئلة بحدّ ذاتها لم تعد كافية.
فما نبحث عنه هو اقتراحات، تنقلنا من لحظة التأمّل بالسؤال إلى الغوص بالفرز والسجال اللذين يفرضهما اقتراح ما، مهما كان عامًا أو مبهمًا. قد يبدو شكل الاقتراح خارجاً عن سياق الانهيار، وفيه شيء من التعالي على واقع تبدو أفقه مسدودة. لكنّ «الاقتراح» قد يكون، في خروجه عن حدود الممكن، هو المطلوب اليوم: اقتراحات قد تفرز، واقتراحات قد تزعج، واقتراحات قد تنقلنا من لحظة «الثورة» الجامعة إلى لحظة الفرز السياسي…
يدعو هذا الملف كتّاباً وكاتبات إلى المساهمة باقتراح في السياسة، بمفهومها العريض، ليصبح نقطة سجال أو نقاش أو بحث، ينشر مرة في الأسبوع. يطمح أنّ يشكل هذا الملف مساهمة بسيطة بعملية التفكير الجماعية التي تعرف بالثورة، ولكن خارج الاجتماعات المغلقة وضروريات التنظيم الضيقة.
قد لا يكون في هذا الملف فائدة لمن بدأ يحضّر نفسه للانتخابات. فإنهّ مجرّد محاولة لتأمين بعض من الاسمترارية لهذا المختبر الذي لم يقف من مفاجئتنا.