سواء كانوا ستّة زعماء أو ستّة أحزاب-طوائف (أو الإثنين معاً)، سواء كانوا متفقين بين بعضهم بعضاً أو مختلفين، فإنّ لديهم قواسم مشتركة تجعل منهم قطباً طائفياً كيفما نظرت إلى الأمر: لكلّ زعيم و/أو حزب كانتون جغرافي وجمهور مذهبي هما مجاله الحيوي، ودوره (أو ادّعاؤه) هو الدفاع عن هذا الكانتون وذاك الجمهور. في المقابل، نحن (وإن لم نكن قطباً) موجودون – ولو مبعثرين – في كل المناطق لئلا نقول الكانتونات، ومتحدّرون من كل المذاهب – كونك لا تحصل على الجنسية اللبنانية إلا بعد أن تتبنّاك إحدى الطوائف المعترف بها(!) – ومعترضون على هذه الأحزاب وعلى زعمائها. بعكس القطب الطائفي، نحن قطب احتماليّ.
في إمكانيّة هذا القطب وضرورته
عرف تاريخ لبنان السياسي عدّة أشكال من القطبية التقليدية انتظم الشعب تحتها في حقبات مختلفة. نتيجة تفكّك نظام الزعماء الطائفيّين (الذي قضى من قَبل على النظام الطائفي التقليدي)، صار من الممكن — للمرّة الأولى في تاريخ لبنان — أن نتصوّر «قطبيّة» من نوع جديد لم يعتدها الواقع اللبناني، أو لاعباً لم يحظَ حتى الآن بإمكانية التواجد. ما حدث في 17 تشرين دلّ على أنّ هذا الانتظام ممكن. والردّة التي نعيشها أخيراً (نظام الزعماء هو الذي تفكّك، وليس نفوذ الزعماء!) تدلّ على أنّه بغياب هذا الانتظام، سيعود زعماء النظام لينهشوا من جمهورٍ تحرّر يوماً منهم... من هنا أيضاً ضرورة بناء سدّ يؤمّن مناعةً لهذا الجمهور.
في ميزة هذا القطب ومهمّته
إن كنّا نتكلّم عن مواجهة القطب الطائفي أو الزعماء الستّة، فهذا يعني أنّ علينا بناء القطب اللاطائفي أو اللاعب السابع. إلا أنّ هذا القطب لن يُنتَج من قانون توحيد الثوّار القسري، ولا من إغراءات الكارتيلات المالية «الإصلاحية»، ولا من إملاءات تشكيل لوائح انتخابيّة… فكلّ ذلك يوازي وضع العربة قبل الحصان، أو البناء على الرمل، ولن يصمد أمام أوّل عاصفة. أسوةً بوضوح هدف القطب الطائفي ولاعبيه، والذي هو الدفاع عن الكانتونات والطوائف، علينا نحن المعترضين عليهم والمتواجدين بينهم أن نكون بنفس الوضوح: مهمّتنا هي الدفاع عن وحدة البلد وعن وحدة الشعب، وترسيخهما وتوسيعهما. من هنا نبدأ، من هذا الوضوح.
إطار من نوع جديد تأخّرت ولادتُه
كان ممكناً لهذا القطب أن يولد من قبل. حدثٌ بأهمية 17 تشرين أوحى بإمكانية ولادة شعب، وأزمةٌ بعمق تلك التي عطّلت النظام طلبت لا بل فرضت هذا الارتقاء. ليس من الضرورة التوسّع في شرح أنّ أيّ مجموعة (أو حزب) لم تكن بالمستوى المطلوب، ولن تلبّي لوحدها الطلب الذي كان ينتظره الجمهور. فالبديل عن «كلّن يعني كلّن»، بما هو نظام حكم متكامل، هو — كما دلّت انتفاضة 17 تشرين وكما تمنّى جمهورها — إطار سياسي مناطقي اجتماعي مجتمعي مؤلف من هيئات ومن أفراد (حقوقهم مصانة فيه) قادرين على الانتساب إليه دون المرور بالضرورة بأحد مكوّناته. ليس عيباً الاعتراف بأنّنا لم ننجح حتّى في تخيُّل إطار كهذا.
مَن يُبادر وكيف؟
تُشكّل الآلية ولحظة المبادرة تحديداً التحدّي الأكبر والأكثر دقّةً لقيام قطب كهذا. (يبدو لي أنّ) نقطة الانطلاق لن تأتي إلا من أفراد — غير منتظمين في أطر أو منتظمين لا فرق — يتمتّعون باستقلالية تسمح لهم بالمبادرة والملاحقة. ولا مانع من أن تنطلق المبادرة من هيئة منظمة ذات عقل منفتح. المهمّ أن نعي جميعاً أنّ القطب لن ينشأ ولن ينمو إلا إذا سعى المبادرون لفتح الطريق له بتعميم الثقة بين القيّمين عليه، إلا إذا راهنوا ضمناً على أن تترسّخ هوية هذا الإطار وهيئاته ليشكل البديل عن التشكيلات الحالية. قيام قطب كهذا سيتطلّب تفكيك مفردات خشبية وإنتاج أدوات جديدة ستميّزه حتماً عن السائد، بما في ذلك السائد على الساحة الاعتراضية.
هل يجب المبادرة بهذا القطب قبل الانتخابات أو بعدها؟
تشكل الانتخابات دائماً محطةً أساسية في العمل السياسي لا بدّ من التوقّف عندها والمشاركة بها بغضّ النظر عن شكل هذه المشاركة (التي قد تشمل المقاطعة في حالات محددة). بالرغم من ذلك، لا يجوز بيع أوهام كما يجري حالياً حول نتائج الانتخابات، وذلك بسبب القانون-الأساس (أي الاقتراع مكان القيد الذي يجعل من أي عملية انتخابية إعادة إنتاج شبه آلية للطبقة نفسها)، وبسبب القانون الحالي (الذي يعتمد حواصل مختلفة حسب الدوائر)، وبسبب كلّ الظروف غير المتكافئة التي تحيط بالعملية. مع ذلك، من المستحسن تشكيل القطب اللاطائفي قبل الاستحقاق الانتخابي لتحسين الأداء فيه وقدرة اللملمة من بعده.
أيّ مضمون لهذا القطب بين القائم والمطلوب، وأيّ قُرص صلب له؟
مواجهة نظام الزعماء الطائفي وأزمة هذا الأخير والأخطار المحدقة بالبلد، كلّها تدلّ على أنّ القرص الصلب لهذا القطب هو اللاطائفية. هذا لا يعني أنّ الأمور الأخرى أقلّ أهمية، بل يعني، بالعكس، أنّ على اللاطائفية أن تنكبّ على بلورة السياسات العامة في كلّ شؤون البلد. لأنّ أيّ مقاربة تنطلق من مكان آخر لن تؤمّن بالضرورة نقضاً للنظام الطائفي، وقد تتقاطع هنا أو هناك مع بعض أطرافه. في «دستور» هذا القطب، اللاطائفية هي القرص الصلب. فقط انطلاقاً من اللاطائفيّة (راجع الملحق)، نقارب مجالات الشأن العام المتنوّعة مثل المؤسسات والسيادة والأمن، والحريات والاقتصاد والاجتماع، والانتماء العربي والعلاقات الدولية.
فائدة القطب اللاطائفيّ وخاتمة مؤقّتة
ليس القطب اللاطائفي هو الائتلاف السياسي ولا «دستوره» هو البرنامج السياسي. ربما كان القطب أرضيةً للأوّل، و«دستوره» بوصلةً للثاني. في مرحلة الشدّة التي دخلناها، يشكّل القطب هيئةً للدفاع عن المجتمع وموارده، وملجأً يسمح بصمود مَن خرج مِن تحت قبّة النظام. في سنة الاستحقاقات التي تطلّ برأسها، يلعب القطب — وهو على تقاطع جغرافيا الدوائر والمناطق والمهن — دور المراقب، وإن اكتسب صدقية كافية، دور المرجعية. في مهمة صياغة المشروع، يؤمّن «الدستور» القاعدة لتوضيح أساس الفرز (مثلاً حول موضوع التحالف مع الكتائب أو عدمه)، ويشكّل قوّة جذب تساعد على إعادة انتشار المشهد الاعتراضي. وللبحث صلة.