انتقلنا في لبنان خلال فترة زمنية لا تتخطّى السنة الواحدة
من معادلة:
نص ساعة من الجبل للبحر، بتكون عم تعمل سكي بتصير عم تتشمس وتتسبح
إلى معادلة:
ساعتين بين محطة بنزين ومحطة أخرى لتفوّل سيارتك
إعادة إنتاج معادلات الوقت هي الفيصل والناظم والمؤشّر الحقيقي لأي ديناميك اجتماعي يهدف إلى تغييرات جوهرية في المجتمع.
يحيلني الأمر مباشرة، وليس على سبيل المصادفة، إلى شعارٍ كان قد رشّه أحدهم على جدران وسط بيروت:
بدنا نسترجع الوقت المنهوب
فللأمر صولات وجولات إذن، امتدّت من لحظة الانتظار أمام مزاج كثير من موظّفي الإدارات الرسمية تاريخيًا، إلى انتظار فرص العمل أو الانتظار أمام أبواب السفارات، مرورًا بانتظار نتيجة التحقيق في جريمة المرفأ. ووصلت في أيامنا هذه لتُتَرجَم على مختلف الأصعدة انتظاراً ووقتاً منهوباً:
أمام المحطات، أمام الصيدليات، أمام المصارف، أمام البضائع المدعومة في السوبرماركت...
هي معادلة بسيطة لكنّها بدلالات خطرة تختصر ما يحتاج إلى ملايين الكلمات والدقائق للتعبير عنه. فنحن في صراع مع الوقت، وصراع عليه. وهذا الصراع هو أحد اشكال المواجهة، وهو أحد أبرز تداعيات التغيير، خصوصًا لناحية الاقتصاد في الزمن بهدف تقليل الهدر والخسائر، وتقصير مدّة الإذلال اليومية، وانتهاءً بالشعور بالحياة وبسيلانها.
هذه إحدى أهم وأبرز دلالات التبدلات الثورية، وضع تصوّر جديد للزمان والمكان والبيئة والمحيط الحيوي...، ووضع طرق مبتكرة لكيفية استغلال كل ذلك بأفضل الطرق الممكنة، لاسيما وأن أزمة النظام تتبدّى أيضاً في استباحة هذه القطاعات في لبنان. فهذه السلطة لم تنهب ما هو جليّ وظاهر فحسب: أراضٍ ومشاعات وممتلكات ووسط بيروت ومؤسسات ومال عام… لربما كان هذا أقل الأضرار. بل لقد نهبت ما هو خفيّ وأخطر بكثير من أي ظاهر: نهبت الوقت واعمار الناس معه، نهبت المستقبل والحلم، نهبت الراحة ومصادر التسلية، السعادة والضحك، نهبت الحياة نفسها…
تبدو إعادة وضع تصور جديد للوقت، ولكيفية استغلاله، والاقتصاد فيه وبه، ووضع تصوّر جديد للمكان أيضًا، للبيئة، للمحيط الاجتماعي، لكيفية العيش، لأوقات الفراغ، هي أحد أهم المشاريع التي يمكن العمل عليها بهدف بلورتها، عبر منهجية فتح أفق مشاركة تجارب الآخرين.
هذه نقطة شديدة الأهمية في التأسيس السياسي أيضًا، إذ يجب أن تتعدّد مصادر المعلومات والتجارب، لأنها تصبّ بأكملها في محاولات كسر التسلط والاسقاطات، بالإضافة إلى أنها تؤسس لديموقراطية أصيلة تبدأ من تحت، من الجذور، من الأشخاص الذين هم أصل كل سلطة.
الحق بالحياة هو مشروع سياسي، تمامًا كما أعلنت ثورة الطلاب في فرنسا العام 1968، الحق بالحياة وبالفرح وباستنزاف الوقت وعيشه حتى النفس الأخير. هو حق علينا كجماعات تغيير أن ننتزعه لنمارسه كما يحلو لنا، لا أن يذهب هباءً بين انتظارات متعددة تضرب عميقًا لتذلّ ما هو كامن في النفس من أمل، كما تضرب القدرة على الإنتاج والتحويل على المستوى الاقتصادي وعلى المستويات الحياتية.
من هذا المنطلق، فإنّ أيّ نظام مستقبليّ يمكن أن ينبني، لا بدّ أن يصهر هذه التجارب التي نعايشها في يومياتنا خلال هذه الفترة، وأن يتأسّس من الحلول التي سنصل إليها في القادم من الأيام، ليس بهدف تقليل الخسائر إلى الحدّ الأدنى فحسب، بل بهدف ابتداع سلوكيات تطال تعاملنا مع الآخرين ومع الأشياء والمقتنيات، ومع الزمن كذلك.