تقف القوى التغييريّة أمام اختبار صعب يهدّد مصداقيتها إذا لم يكن الوضوح سمة أساسية لعملها، بالتوازي مع ميزة أخرى يجب أن تتمتّع بها، وهي التشاركية.
لا تقتصر التشاركيّة على إعطاء حيّز فكري للناس ومشاركتهم البرامج واختيارهم للمرشحات والمرشحين، بل تتعدى ذلك إلى المشاركة المادية. فتمويل القوى المعارضة أو الحملات الإنتخابية ليس عملية منفصلة عن العمل السياسي، بل هو في صلب منطقه.
بناءً عليه، يبدو التمويل الجماعي الواضح والعلنيّ أساساً لأيّ فعلٍ تشاركيّ، ولا يمكن فصله عن مسار الثقة التي تكتسبها تلك القوى من الناس.
لكن ثمة إشكالية تواجهها القوى التغييرية الصاعدة:
كيف يمكن أن يتمّ هذا التمويل ونحن نمرّ بمأزق اقتصادي مريب وموجع للجميع؟
ومن هذه الإشكالية تتفرّع أسئلة أخرى:
كيف يتمّ هذا التمويل بشكل شفاف وعلنيّ وغير خاضع لأي جهة تابعة للمصارف أو للشركات الكبرى أو للرأسماليين الكبار؟ في المقابل، هل يمكن للتشاركية المكثّفة أن تحلّ جزءاً من مشكلة التمويل؟
ثمّة أربع أفكار يمكن طرحها للبحث في أطر مختلفة للتمويل:
1. تكثيف التشاركية من خلال تفعيل البرنامج عبر الاحتكاك المباشر مع الناس: يحصل ذلك من خلال حملات الـdoor to door او النقاشات العامة في الحيّز العام على شكل «هايد بارك»، ما يساهم في تخفيض القيمة التمويلية. 2. تكثيف التعاونيات بجميع أشكالها، وبلورة نموذج اقتصادي تشاركي: مع تشاركية العمل والإنتاج، يتحوّل العمّال والعاملات إلى شركاء مباشرين، مما يساعد في بناء اقتصاد بديل تعاوني تشاركي، يمكن أن يشكّل رافعة لعملية التمويل. 3. الاتّكال على تمويل جماعي، تحت سقوف محدّدة وبأسماء واضحة وشفافة، تؤمن بمبادئ التنظيمات. 4. العمل على إقرار قانون ينصّ على تمويل الدولة للحملات الانتخابية: يعني ذلك أنّ أيّ حزب يخوض الانتخابات ويفوز، يمكنه استعادة حصّة من أمواله وفق عدد المقاعد التي يحصل عليها، كما يحدث مثلاً في إسبانيا.
لا تضفي هذه الأساليب التمويليّة الشفافيةَ على العمل السياسي والانتخابي للقوى التغييريّة فحسب، بل تساهم أيضاً في تحقيق تحوُّل نوعي في العمل السياسي نفسه في لبنان.
فمن المعروف أن قوى السلطة تعتمد إمّا على دول أجنبية لتمويل حملاتها الانتخابية، أو على متمولين كبار هم غالبًا من الفاسدين ومبيِّضي الأموال. لذلك، فإنّ تمويل المواطنين والناخبين للحملات الانتخابية من شأنه أنّ يغيّر المعادلة جذرياً. فعندما يموّل فردٌ مرشحاً نيابياً، يصبح معنيّاً أكثر بمساءلته ومتابعة أعماله كممثّل للشعب ومحاسبته إن أخطأ أو تقاعس، فيصبح التمويل جزءًا من عملية المحاسبة.
يتعلّق الأمر هنا بأفكار مقترحة للنقاش، وهي موجّهة لمجموعات انتفاضة 17 تشرين، المدعوة إلى الإسراع في تنظيم عملية تمويلها الشفاف ووضع الآليات الملائمة لتمويل تشاركي. ذلك أن إطلاق هذه الدينامية التمويلية وفق المسارات الأربعة المقترحة، يحتاج لكثير من الجهد والوقت. لكن لم يفت الأوان بعد، وإن توفرت الإرادة، يمكن تنفيذ هذه المهمة قبل موعد الانتخابات النيابية والبلدية المقبلة.
يجب أن تكون هذه المهمّة ملحّة، لا سيّما أنّنا نواجه حملات بروبغندا إعلامية من قبل قوى السلطة، وفي مقدمتها حزب الله، تقوم على شيطنة القوى التغييرية انطلاقًا من معلومات مفبركة عن مصادر تمويلها.
هذه الدعوى موجّهة إلى المنصات والأطر الجديدة التي تنشط اليوم من أجل بناء تحالف انتخابي يضمّ القوى التغييرية. ويجب أن تلتزم هذه العملية بالشفافية والسقوف المنخفضة للتبرّعات المخصّصة للحملة الانتخابية. ومن الضروريّ أن يكون التمويل فردياً، أي فعلاً طوعيّاً من قبل الأفراد، لا من قبل الشركات ورجال الأعمال. وهنا، لا بد من الإشارة إلى المغتربات والمغتربين المتحمسين للتغيير السياسي في لبنان. فهؤلاء قد يشكلون مصدر تمويل شفاف وفردي، من خلال تأسيس صندوق تبرعات للبنانيين في الخارج.
لذلك، فإن معركة الوضوح والشفافية والتشاركية في التمويل هي واحدة من المعارك التي يجب أن نخوضها بوجه حملات الشيطنة التي تشنها قوى السلطة ضدنا.