الصباح
في اللحظة ذاتها وهي صدفة وطنية محض.التي وقفتْ فيها إم محمد على الشرفة في شارع حَمَد تطلق الزغاريد عالية المدى وترشّ ورق الجرائد، الأرزّ لا يزال مفقودًا في الأسواق إلا لمن له واسطة كبيرة. كانت مدام إيفون تقف على بعد 14 كيلومتراً تقريباً في الاشرفية- فسوح، تصفّق بحدّةٍ كبيرة. كانت الدرونز تلتقط هذه المشاهد وتبثّها مباشرة على صفحات الأحزاب اللبنانية، كون إذاعات التلفزة كانت قد حصرت بثّها بين الساعة 6 مساء الى الساعة 9 ليلاً فقط. وهذا يعود إلى شحّ الكهرباء نهاراً، ووجود مشاهدين فقط ضمن هذه الساعات. عند الساعة الرابعة، فاجأت وزارة الطاقة البلاد بتقديم كهرباء الدولة. فاختفت مظاهر الفرح، وانشغل الناس في شحن الهواتف واستعمال الغسالات والاستحمام وكوي الغسيل.
كان صباح اليوم مفصليًا في التاريخ اللبناني. فقد تمّ ترحيل آخر لاجئ سوري من لبنان، وتمّ الاتفاق على تأجيل المحادثات لترحيل الفلسطينيين. تسبب سؤال «الى أين» بأزمة صغيرة ولكن تم تجاوزها بسرعة بين نواب الأمة، قبل أن يتمّ الاتفاق على سياسة ترحيل كل الأجانب، في الزمان والمكان المناسبين. صارت صورة ام محمد وايفون رمزاً لهذه اللحظة، وانتشر خصم 20% على فاتورة الطعام إذا ادخل كود w7dwtn4vr في مطاعم عدّة، كما انتشر خصم 10% على سعر الفاتورة في كافة تعاونيات لبنان اذا اشتريت بقيمة 200 لولار. أو إذا دفعت 22 دولاراً فرش.
المساء
في المساء نفسه، ومع استقرار نسبي لسعر الصرف في السوق السوداء، غرّد رئيس الوزراء عن أهمية الوطن، وأعلن حملة تشجير في كافة المناطق اللبنانية. مدعوم من منحة من الاتحاد الأوروبي.شاهد اللبنانيون مشاهد ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان ودخول آخر حافلة إلى الحدود السورية، قبل أن يتمّ إقفال المعابر. ظلّت الكاميرات تلاحقها الى أن اختفت في السواد العظيم. شّددت المذيعة على المستقبل الباهر الذي ينتظر اللاجئين المُرحّلين، لكنّها أسفت لرفض وزارة الإعلام السورية منح تراخيص للإذاعات اللبنانية لبثّ وقائع العودة واستقبال العائدين.
الليلة
في هذه الليلة، تنفّس الجميع الصعداء، وأصدر الأمن العام تنويهاً كُتِب بالخط الأحمر على الشاشة، مفاده أن إقفال الحدود رمزي والطريق ما زال مفتوحًا أمام:
- الشاحنات
- السياح اللبنانيين
- الأفراد ذوي صفة حزبية خاصة
- الوفود السياسية
- أبناء العشائر المشتركة
- أعضاء محور الممانعة الذاهبين إلى سوريا
أمّا المدنيون السوريون من أي فئة عمرية او جندرية ومن أي طائفة كانوا ومن دون أي تمييز، فالحدود مقفلة أمامهم الّا إذا كان بحيازتهم مبلغ 5,000 دولار كاش وحجز فندق أو إذا كانوا متوجّهين إلى المطار حصرًا، من خلال خدمة الخط العسكري المُفعّلة حديثاً.
النهار التالي
كان النهار التالي مشمسًا.
من كثرة الفرحة، مدّد أصحاب المولّدات الخاصة ساعات الكهرباء تلبية لطلب المسؤولين، وانشغل الناس في الاتفاق على سعر صرف الدولار في السوق السوداء أولاً، و من ثم الاستماع الى برنامج استثنائي للأستاذ مارسيل بدأ بثّه ظهرًا. توجّه الأستاذ مارسيل بمقدمة عن المؤامرة القادمة واتّهمهم بالوقوف خلفها. صار المشاهدون يحلّلون من هي الـ«هم» التي قصدها الأستاذ مارسيل. توتّر الهواء فجأة، وبدأ سعر الدولار بالارتفاع. ثمّ توقّف الأستاذ مارسيل عن الحديث عن المؤامرة، وصار يستعرض مشاهد من الترحيل، وخصوصاً مشاهد اكتشاف علب لبنة فارغة، أكّدت أحقية قرار ترحيل اللاجئين قسرًا لكون اللبنة لم تعد تكفي الجميع، للأسف. استضاف في الاستوديو معه مدير مصنع ألبان وأجبان، شكا للأستاذ مارسيل اضطراره للغشّ في بعض المنتوجات كي تكفي جميع المستهلكين، قبل أن يتمّ الإعلان عن مهرجان «أكبر صحن لبنة» قريبًا، حين تتحسّن الظروف. أرخى الناس العصب الطائفي قليلا، ولكن الـ«هم» ظلت تحوم فوق الرؤوس، وظلت عقول الناس تفكر بها.
استعرض الأستاذ مارسيل بعض المبادرات التي انطلقت من شباب الوطن، من بينها حملة «وطنك جزء من طايفتك، ما تكبّ فيه» البيئية التي تهدف إلى حماية الوطن من أضرار البلاستيك، وحملة «تعى ننسى» للتوعية من أضرار حملة «كشف مصير المفقودين في الحرب الأهلية وعملية ترحيل اللاجئين السوريين»، والتي تهدف إلى تعكير صفو السلم الأهلي. ومع توقف البث عند الساعة التاسعة مساءً، حضّر الناس أنفسهم للنوم، لأن النهار التالي، كما قال نوّاب الأمّة، نهار العمل واسترجاع الوطن، كما هو أيضًا يوم توفير خبز مدعوم لمدة أسبوعين، مدعوم من هِبة قطرية.ما يعني وقوفاً في الطوابير.
الأسابيع التالية
لأسابيع من بعدها، وفي شتى المدن اللبنانية، وقف الشباب اللبناني والشابات اللبنانيات أمام المراكز البلدية لاستلام الوظائف التي كان اللاجئون قد سرقوها. ووقف الموظفون والمودعون مع أطفالهم أمام البنوك لسحب الدولارات التي كان اللاجئون يسحبونها بدلاً منهم. كما انتظرت ربّات المنازل تغذية الكهرباء الإضافية الموعودة، وانتظر أصحاب العمل تعافي الاقتصاد. استضاف الأستاذ مارسيل كل نواب الامة الذين تفاخروا بالترحيل العظيم، وتكلّموا كثيراً عن الـ«هم»، كما استضاف نواب المعارضة الذين أضاؤوا شمعة. عقد حلقة خاصة عن المخيّمات الفلسطينية، وعرض مشاهد لعائلة تشرب الشاي على سطح منزلها في المخيم كتحدٍّ واضح وصريح لسلطة الجيش. وحين اتّصلت سيّدة تسأل عن مصير جارتها السورية التي اختفت، تطرّق الأستاذ مارسيل إلى موضوع «خيانة الوطن» التي كانت ظاهرة مرتفعة الانتشار، لأن بعض المخرّبين قد عاد إلى إزعاج البنوك واستعمال لغة العنف بدلاً من لغة الحوار للحصول على الودائع. رغم إمكانية سحبها بموعد خاص ورسالة مصدّقة من المختار تفيد بالسبب.وقد كثّفت الأحزاب الوطنية حملات رفع الوعي حول سهولة الانزلاق في «خيانة الوطن» والانتباه الى خطر التظاهر لأنه يسبّب فتنة، وذكّرت المشاهدين كيف بدأت الحرب الأهلية سيّئة الذكر، كما دعا الحزب الشيوعي الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها أمام الناس. وقد أقام بعض مناصري التيار والقوات وتيار المستقبل اعتصاماتٍ أمام مكاتب مفوضية الأمم المتحدة للّاجئين، مطالبين بدعم مالي واجتماعي مثل الذي كانت توفّره للّاجئين السوريّين تحت شعار «أنا لبناني»، بينما اكتفت سائر الأحزاب بالتنديد بعنصرية الأمم المتحدة ضد اللبنانيين وضرورة استرجاع الأموال المنهوبة من المنظّمات الدولية التي تلاعبت بالسوق وأفلست الدولة.
من بعدها، صارت الطوابير تجفّ أمام البلديات والبنوك والمؤسسات الحكومية. طالت وجوه الناس، وعكّرت المزاج العام مجددّا. خلت مواسم السياحة من أي كونسبت مثل العادة، واعتمدت على حملة وزارة الاقتصاد التي شجّعت المغتربين بأن يسافروا ويسلّموا الأموال التي يرسلونها من الخارج باليد، اوفر لهم من تحويلها عبر وسترن يونيون. الحملة بعنوان «اقتصادك بيكبر بالإيد».صوّت نواب الأمّة على تشريع يسمح لهم بالعمل remotely وصاروا مقيمين خارج البلد بسبب نفسية بعض المواطنين وتأثيرها على العمل السياسي. صار الناس يتهامسون عن عودة الـ«هم»، إلى أن صارت أحاديث عادية، فعادت عناوين الأخبار تتّهمهم بالسرقات واحتكار موارد الوطن ومنعهم من فعل أي شيء لمصلحة الوطن، وعاد ممثّلون عن نواب الامة الى عقد لقاءات خاصة مع الأهالي، وعاد الهواء متوترا جداً، كأنه مسموم.
حدث شيء غريب. صار الناس يتجنّبون النظر في المرآة، وصاروا يرمون المرايا محطّمةً مهشّمةً على الطرقات، وأقدم مجهولون على تحطيم زجاج عاكس في مختلف المناطق اللبنانية. عاد الذعر، وانطلقت حملة من وزارة الصحة تهدف الى توعية الناس حول أهمية الصحة النفسية كي يشتدّ العصب الطائفي، وتحثّهم على تجنّب المرايا. كبر الذعر لأنّ رائحة الموت صارت تصل من الحدود شمالاً إلى البيوت، فأصدر نوّاب الأمّة قانون عفو عام ليخففوا من رائحة الموت، وفتحوا تحقيقاً لمعرفة المسؤولين عن الترحيل.